"اللباس في الصلاة"
وقال شيخ الإسلام رحمه الله فصل في "اللباس في الصلاة" وهو أخذ الزينة عند كل مسجد: الذي يسميه الفقهاء: "باب ستر العورة في الصلاة" فإن طائفة من الفقهاء ظنوا أن الذي يستر في الصلاة هو الذي يستر عن أعين الناظرين وهو العورة وأخذ ما يستر في الصلاة من قوله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} ثم قال {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} يعني الباطنة {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ}1 الآية، فقالوا: يجوز لها في الصلاة أن تبدي الزينة الظاهرة دون الباطنة
والسلف قد تنازعوا في الزينة الظاهرة على قولين:
1 - فقال: ابن مسعود ومن وافقه هي الثياب
2 - وقال ابن عباس ومن وافقه: هو ما في الوجه واليدين،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النور: الآية 31 ، وتمامها: {أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
مثل الكحل والخاتم. وعلى هذين القولين تنازع الفقهاء في النظر إلى المرأة الأجنبية.
فقيل: يجوز النظر لغير شهوة إلى وجهها ويديها وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وقول في مذهب أحمد.
وقيل: لا يجوز وهو ظاهر مذهب أحمد قال: كل شيء منها عورة حتى ظفرها وهو قول مالك.
وحقيقة الأمر: أن الله جعل الزينة زينتين: زينة ظاهرة وزينة غير ظاهرة وجوز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج وذوي المحارم وأما الباطنة فلا تبديها إلا للزوج وذوي المحارم.
وكانوا قبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا جلباب يرى الرجل وجهها ويديها وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين وكان حينئذ يجوز النظر إليها لأنه يجوز لها إظهاره1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قلت: ظاهر هذا الكلام مع الذي بعده أن الآية نزلت في ستر الوجه واليدين خاصة وقد اغتر بذلك العلامة المودودي فقال في كتاب "الحجاب" "ص 366" بعد أن ساق آية الأحزاب: نزلت خاصة في ستر الوجه!
وقد ذكرت ما يمكن أن يكون مستنده في ذلك وهو مستند ضعيف أيضا في كتابي "حجاب المرأة المسلمة" وبينت فيه أن إسناده ضعيف جدا فراجعه "ص 41"
ثم لما أنزل الله عز وجل آية الحجاب بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ}1 حجب النساء عن الرجال.
وكان ذلك لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش2 فأرخى النبي صلى الله عليه وسلم الستر ومنع أنساً أن ينظر.
ولما اصطفى صفية بنت حيي بعد ذلك عام خيبر قالوا: إن حجبها3 فهي من أمهات المؤمنين. وإلا فهي ملكت يمينه،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأحزاب: 59
2 قلت: هذا الكلام غير منسجم مع الذي قبله فإن الآية التي نزلت لما توزج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ليست هي الآية المتقدمة وإنما هي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ... } [الآية 54 – الأحزاب].
فهذه الآية هي التي نزلت حين تزوج صلى الله عليه وسلم بزينب كما صرحت بذلك الأحاديث الصحيحة عند البخاري ومسلم وغيرهما انظر "تفسير ابن كثير" و "الدر المنثور" وغيرهما وكتابي "حجاب المرأة المسلمة" "ص 48" طبع المكتب الإسلامي فلعلها سقطت من قلم المؤلف أو الناسخ وهو الأقرب.
3 أي وجهها كما في بعض الطرق. ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحجب نساءه الحرائر في وجوههن أيضا وهذا هو الأفضل كما فصل ذلك في =
فحجبها فلما1 أمر الله أن لا يسألن إلا من وراء حجاب وأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن.
و "الجلباب" هو الملاءة وهو الذي يسميه ابن مسعود وغيره: الرداء وتسميه العامة الإزار وهو الإزار الكبير الذي يغطي رأسها وسائر بدنها.
وقد حكى عبيدة وغيره: أنها تدنيه من فوق رأسها فلا تظهر إلا عينها ومن جنسه النقاب فكن النساء ينتقبن.
وفي الصحيح: "أن المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين".
فإذا كن مأمورات بالجلباب لئلا يعرفن2 وهو ستر الوجه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "الحجاب" "ص 50" بخلاف إمائه صلى الله عليه وسلم فإن الحديث يدل على أنه كان لا يحجبهن في وجوههن وأما أن الحديث يدل على أن السنة في الإماء أن لا يسترن رؤوسهن ونحورهن بالجلباب أو الخمار على الأقل فلا كما بينته في الكتاب المذكور "ص 44 – 45". والحديث متفق عليه وترى تخريجه فيه "ص 46"
1 كذا ولعل الصواب "فلذا".
2 الآية تقول: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ} وتقدير "لا " فيها خلاف الأصل ولا مبرر له فإن المعنى بدونها مستقيم قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: أي إذا فعلن ذلك عرفن أنهن حرائر لسن بإمام ولا عواهر ومحوه في "تفسير ابن جرير". وعليه فقوله "وهو ستر الوجه" مما لا وجه له وكذا ما بعده. نعم حديث "الصحيح" يدل على أن الانتقاب كان معروفا لكنه لا يدل على وجوبه ولا على أنه المقصود بالآيةأو ستر الوجه بالنقاب: كان حينئذ الوجه واليدان من الزينة التي أمرت ألا تظهرها للأجانب.
فما بقي يحل للأجانب النظر إلا الثياب الظاهرة فابن مسعود ذكر آخر الأمرين وابن عباس ذكر أول الأمرين1.
وعلى هذا فقوله: {أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}2 يدل على أن لها أن تبدي الزينة الباطنة لمملوكها. وفيه قولان:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا قال المؤلف رحمه الله تعالى وهو يعني أن ابن مسعود لما ذكر في تفسير الزينة الظاهرة أنها الثياب كما تقدم قريبا إنما ذكر ما استقر عليه الأمر وابن عباس لما ذكر في تفسيرها أنها الوجه واليدين ذكر ما كان عليه الأمر قبل ذلك وهذا بعيد فإن كلا من الصحابيين الجليلين قال ما قال في تفسير الآية المشار إليها {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}. وهي تعني قطعا الأمر الذي استقر أخيرا حكم الشرع عليه غاية ما في الأمر أنهما اختلفا في تفسير هذا الأمر ذاته فكيف يصح أن يقال: فابن مسعود ذكر آخر الأمرين وابن عباس أوله. ولذلك ذهب بعض السلف إلى الجمع بين قوليهما فقال ابن جرير في تفسيره "18 / 94 " بعد أخرجه ساق القولين بأسانيده إليهما: وقال آخرون عني به الوجه والثياب ذكر من ذكر ذلك. ثم روى بإسنادين صحيحين له عن الحسن البصري أنه قال: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: "الوجه والثياب" ثم اختار هو أن المراد به الوجه والكفان وفيه نظر من حيث الأسلوب القرآني بينته في "الحجاب" وقد وافقته على اختياره من الناحية الفقهية فراجعه "ص 17 – 24"
2 سورة النور الآية: 31.
1 - قيل المراد الإماء والإماء الكتابيات كما قاله ابن المسيب ورجحه أحمد وغيره.
2 - وقيل: هو المملوك الرجل: كما قاله ابن عباس وغيره وهذا مذهب الشافعي وغيره وهو الرواية الأخرى عن أحمد فهذا يقتضي جواز نظر العبد إلى مولاته.
وقد جاءت بذلك أحاديث1 وهذا لأجل الحاجة لأنها محتاجة إلى مخاطبة عبدها أكثر من حاجتها إلى رؤية الشاهد والعامل والخاطب.
فإذا جاز نظر أولئك فنظر العبد أولى وليس في هذا ما يوجب أن يكون محرما يسافر بها كغير أولي الإربة فإنهم يجوز لهم النظر وليسوا محارم يسافرون بها.
فليس كل من جاز له النظر جاز له السفر بها ولا الخلوة بها بل عبدها ينظر إليها للحاجة وإن كان لا يخلو بها ولا يسافر بها فإنه لم يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسافر المرأة إلا مع زوج أو ذي محرم"2 فإنه يجوز له أن يتزوجها إذا عتق كما يجوز لزوج أختها أن يتزوجها إذا طلق أختها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قلت: ذكرت بعضها في التعقيب على كتاب الحجاب للعلامة المودودي وهو مطبوع في آخر كتابه المذكور.
2 متفق عليه من حديث ابن عباس وغيره. وهو مخرج في "إرواء الغليل" "995 " و "الصحيحة" "2421"
والمحرم: من تحرم عليه على التأبيد ولهذا قال ابن عمر: سفر المرأة مع عبدها ضيعة1.
فالآية رخصت في إبداء الزينة لذوي المحارم وغيرهم وحديث السفر ليس فيه إلا ذوو المحارم وذكر في الآية {أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} و {غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ}2 وهي لا تسافر معهم.
وقوله: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} قال: احتراز عن النساء المشركات فلا تكون المشركة قابلة للمسلمة ولا تدخل معهن الحمام3.
لكن قد كن النسوة اليهوديات يدخلن على عائشة وغيرها فيرين وجهها ويديها بخلاف الرجال فيكون هذا في الزينة الظاهرة في حق النساء الذميات وليس للذميات أن يطلعن على الزينة الباطنة ويكون الظهور والبطون بحسب ما يجوز لها إظهاره.
ولهذا كان أقاربها تبدي لهن الباطنة وللزوج خاصة ليست للأقارب.
وقوله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} دليل على أنها تغطي العنق فيكون من الباطن لا الظاهر ما فيه من القلادة وغيرها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قلت: وروي عن ابن عباس مرفوعا ولا يصح كما بينته في "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة" "3701"
2 سورة النور: الآية: 31.
3 قلت: وهذا التفسير ل "نسائهن " وأنهن النساء المسلمات دون الكافرات هو الصواب الذي لم يرو غيره عن السلف كما تراه في "الدر المنثور" و "تفسير ابن جرير" و "زاد المسير لابن الجوزي" "6 / 32 - طبع المكتب الإسلامي" و "ابن كثير". وأما تفسير بعض أفاضل المعاصرين بأنهن الصالحات الأخلاق من النساء سواء كن مسلمات أم كافرات فإنه تفسير محدث لمخالفته لتفسير السلف مع كونه غير متبادر من إضافته تعالى النساء إلى المسلمات من حيث الأسلوب العربي. فتأمل.
من كتاب:
حجاب المرأة ولباسها في الصلاة
تأليف:أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
دراسة وتحقيق:محمد ناصر الدين الألباني.