رؤيا الملك فإنه رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع بقرات عجاف وسبع سنبلات خضر يأكلهن ويستولي عليهم سبع سنبلات يابسات ضعيفات فهالته , وجمع لها كل من يظن فيه المعرفة فلم يكن عند أحد منهم علم بتعبيرها , وقالوا : { أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين } [ سورة يوسف : الآية 44 ] وبعد هذا تفطن الذي خرج من السجن لحالة يوسف وما هو عليه من العلم العظيم والعلم بالتعبير , وتفطن لوصيته التي أنساه الشيطان ذكر ربه لحكمة قد فصح أمرها , وأنه لا يخرج من السجن إلا بعد اشتهاره وتميزه العظيم على الناس كلهم بتعبير رؤيا الملك , فطلب هذا الرجل من الملك أن يرسله إلى يوسف , وأنه كفيل بمعرفة تفسيره فلما جاء يوسف قال له : { يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات } فإن الملك والناس معه أرسلوني إليك لتفسرها لهم وهم في انتظار ذلك متشوقين إليه غاية التشوق , ولهذا قال : { لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون } [ سورة يوسف : الآية 46 ] ما أهم الملك وأزعجه ولاعه , ففي الحال فسرها يوسف صلى الله عليه وسلم , وزادهم مع التفسير حسن العمل بها وحسن التدبير , فأخبرهم أن البقر السمان والسنابل السبع الخضرات هي سنون رخاء وخصب متواليات تتقدم على السنين المجدبات ; وأن البقر العجاف والسنابل اليابسات سنون جدب تليها , وأن بعد هذه السنين المجدبات عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون . وأنه ينبغي لهم في السنين المخصبات أن ينتهزوا الفرصة ويعدوا العدة للسنين الشديدات فيزرعون زروعا هائلة أزيد بكثير من المعتاد , ولهذا قال : { تزرعون سبع سنين دأبا } [ سورة يوسف : الآية 47 ] ومن المعلوم أن جميع السنين يزرع الناس , لكنه أراد منهم أن يزرعوا زروعا كثيرة ويبذلوا قواهم في كل ما يقدرون عليه , وأنهم يحتاطون في الغلات إذا حصلت بالتحصين والاقتصاد . فقال : { فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون } [ سورة يوسف : الآية 47 ] أي احفظوا الحاصلات من الزرع حفظا تسلم به من الفساد والسوس بأن تبقى في سنابلها ويقتصدون في هذه المدة مدة الرخاء فلا يسرفون في الإنفاق , بل يأكلون القليل ويحفظون الكثير . وإن بعد هذه السنين المخصبات سيأتي عليكم سبع سنين مجدبات شديدات , تشمل الديار المصرية وما حولها , وإنها تأكل ما قدم لها مما حفظ في سنين الخصب إلا قليلا مما تحصنون . ووجه المناسبة أنه كما تقدم أن الرؤيا تعبر بحال رائيها , والمناسبات المتعلقة بها فكالرائي لها الملك الذي تتعلق به أركان الرعية وأمورها , ولهذا كانت رؤياه ليست حاصة له , بل تشمل الناس والرعية . ووجه المناسبة في تفسير البقرات والسنابل بالسنين ظاهرا في البقر من وجهين : أحدهما أنها هي التي في الغالب يحرث عليها الأرض , والحروث والزروع وتوابعها تبع للسنين في خصبها وجدبها . والوجه الثاني : البقر من المواشي التي سمنها وعجفها تبع للسنين أيضا , فإذا أخصبت سمنت وإذا جدبت عجفت وهزلت ; وكذلك السنابل تزهو الزروع وتكمل وتنمو مع كثرة الماء والسنين المخصبات , وتضعف وتيبس مع السنين المجدبات , فكانت رؤياه في البقر والسنابل من أوصاف السنين وآثارها ومن ذكر الوسائل والغايات . فالحرث للأراضي وسيلة , ونمو الزرع وحصول السمن في المواشي هو الغاية من ذلك والمقصود . وأما قوله : { ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون } [ سورة يوسف : الآية 49 ] أي يحصل للناس فيه غيث مغيث , تعيد الأراضي خصبها , ويزول عنها جدبها , وذلك مأخوذ من تقييد السنين المجدبات بالسبع ; فدل هذا القيد على أنه يلي هذه السبع ما يزيل شدتها , ويرفع جدبها ; ومعلوم أن توالي سبع سنين مجدبات لا يبقي في الأرض من آثار الخضر والنوابت والزروع ونحوها لا قليلا ولا كثيرا , ولا يرفع هذا الجدب العظيم إلا غيث عظيم ; وهذا ظاهر جدا , أخذه من رؤيا الملك ومن العجب أن جميع التفاسير التي وقفت عليها لم يذكروا هذا المعنى , مع وضوحه , بل قالوا : لعل يوسف صلى الله عليه وسلم جاءه وحي خاص في هذا العام الذي فيه يغاث الناس وفيه يعصرون . والأمر لا يحتاج إلى ما ذكروه , بل هو ولله الحمد ظاهر من مفهوم العدد , وأيضا ظاهر من السياق . فإنه جعل هذا التعبير والتفسير توضيحا لرؤيا الملك . ثم اعلم أن رؤيا الملك وتعبير يوسف لها وتدبيره ذلك التدبير العجيب من رحمة الله العظيمة على يوسف وعلى الملك وعلى الناس . فلولا هذه الرؤيا وهذا التعبير والتدبير لهجمت على الناس السنون المجدبات قبل أن يعدوا لها عدتها فيقع الضرر الكبير على الأقطار المصرية , وعلى ما جاورها , فصار ذلك رحمة بهم وبغيرهم من الخلق . ألا ترى كيف شمل الجدب البلاد المصرية وشمل البلاد الشامية وفلسطين وغيرها حتى احتاجوا إلى الاكتيال من مصر , واحتاج يوسف أن يقدر للجميع , ويوزع عليهم توزيعا عادلا فيه الرفق بالجميع والإبقاء عليهم ؟ وكان هذا العلم العظيم من يوسف هو السبب الأعظم في خروجه من السجن وتقريب الملك له من اختصاصه به وتمكينه من الأرض يتبوأ منها حيث يشاء , وهذا من إحسانه , والله لا يضيع أجر المحسنين . ومع هذا الفضل فضل الله أعظم من ذلك , يصيب برحمته من يشاء ممن يختاره , ويختص ويجمع له خير الدنيا والآخرة فإنه رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع بقرات عجاف وسبع سنبلات خضر يأكلهن ويستولي عليهم سبع سنبلات يابسات ضعيفات فهالته , وجمع لها كل من يظن فيه المعرفة فلم يكن عند أحد منهم علم بتعبيرها , وقالوا : { أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين } [ سورة يوسف : الآية 44 ] وبعد هذا تفطن الذي خرج من السجن لحالة يوسف وما هو عليه من العلم العظيم والعلم بالتعبير , وتفطن لوصيته التي أنساه الشيطان ذكر ربه لحكمة قد فصح أمرها , وأنه لا يخرج من السجن إلا بعد اشتهاره وتميزه العظيم على الناس كلهم بتعبير رؤيا الملك , فطلب هذا الرجل من الملك أن يرسله إلى يوسف , وأنه كفيل بمعرفة تفسيره فلما جاء يوسف قال له : { يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات } فإن الملك والناس معه أرسلوني إليك لتفسرها لهم وهم في انتظار ذلك متشوقين إليه غاية التشوق , ولهذا قال : { لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون } [ سورة يوسف : الآية 46 ] ما أهم الملك وأزعجه ولاعه , ففي الحال فسرها يوسف صلى الله عليه وسلم , وزادهم مع التفسير حسن العمل بها وحسن التدبير , فأخبرهم أن البقر السمان والسنابل السبع الخضرات هي سنون رخاء وخصب متواليات تتقدم على السنين المجدبات ; وأن البقر العجاف والسنابل اليابسات سنون جدب تليها , وأن بعد هذه السنين المجدبات عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون . وأنه ينبغي لهم في السنين المخصبات أن ينتهزوا الفرصة ويعدوا العدة للسنين الشديدات فيزرعون زروعا هائلة أزيد بكثير من المعتاد , ولهذا قال : { تزرعون سبع سنين دأبا } [ سورة يوسف : الآية 47 ] ومن المعلوم أن جميع السنين يزرع الناس , لكنه أراد منهم أن يزرعوا زروعا كثيرة ويبذلوا قواهم في كل ما يقدرون عليه , وأنهم يحتاطون في الغلات إذا حصلت بالتحصين والاقتصاد . فقال : { فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون } [ سورة يوسف : الآية 47 ] أي احفظوا الحاصلات من الزرع حفظا تسلم به من الفساد والسوس بأن تبقى في سنابلها ويقتصدون في هذه المدة مدة الرخاء فلا يسرفون في الإنفاق , بل يأكلون القليل ويحفظون الكثير . وإن بعد هذه السنين المخصبات سيأتي عليكم سبع سنين مجدبات شديدات , تشمل الديار المصرية وما حولها , وإنها تأكل ما قدم لها مما حفظ في سنين الخصب إلا قليلا مما تحصنون . ووجه المناسبة أنه كما تقدم أن الرؤيا تعبر بحال رائيها , والمناسبات المتعلقة بها فكالرائي لها الملك الذي تتعلق به أركان الرعية وأمورها , ولهذا كانت رؤياه ليست حاصة له , بل تشمل الناس والرعية . ووجه المناسبة في تفسير البقرات والسنابل بالسنين ظاهرا في البقر من وجهين : أحدهما أنها هي التي في الغالب يحرث عليها الأرض , والحروث والزروع وتوابعها تبع للسنين في خصبها وجدبها . والوجه الثاني : البقر من المواشي التي سمنها وعجفها تبع للسنين أيضا , فإذا أخصبت سمنت وإذا جدبت عجفت وهزلت ; وكذلك السنابل تزهو الزروع وتكمل وتنمو مع كثرة الماء والسنين المخصبات , وتضعف وتيبس مع السنين المجدبات , فكانت رؤياه في البقر والسنابل من أوصاف السنين وآثارها ومن ذكر الوسائل والغايات . فالحرث للأراضي وسيلة , ونمو الزرع وحصول السمن في المواشي هو الغاية من ذلك والمقصود . وأما قوله : { ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون } [ سورة يوسف : الآية 49 ] أي يحصل للناس فيه غيث مغيث , تعيد الأراضي خصبها , ويزول عنها جدبها , وذلك مأخوذ من تقييد السنين المجدبات بالسبع ; فدل هذا القيد على أنه يلي هذه السبع ما يزيل شدتها , ويرفع جدبها ; ومعلوم أن توالي سبع سنين مجدبات لا يبقي في الأرض من آثار الخضر والنوابت والزروع ونحوها لا قليلا ولا كثيرا , ولا يرفع هذا الجدب العظيم إلا غيث عظيم ; وهذا ظاهر جدا , أخذه من رؤيا الملك ومن العجب أن جميع التفاسير التي وقفت عليها لم يذكروا هذا المعنى , مع وضوحه , بل قالوا : لعل يوسف صلى الله عليه وسلم جاءه وحي خاص في هذا العام الذي فيه يغاث الناس وفيه يعصرون . والأمر لا يحتاج إلى ما ذكروه , بل هو ولله الحمد ظاهر من مفهوم العدد , وأيضا ظاهر من السياق . فإنه جعل هذا التعبير والتفسير توضيحا لرؤيا الملك . ثم اعلم أن رؤيا الملك وتعبير يوسف لها وتدبيره ذلك التدبير العجيب من رحمة الله العظيمة على يوسف وعلى الملك وعلى الناس . فلولا هذه الرؤيا وهذا التعبير والتدبير لهجمت على الناس السنون المجدبات قبل أن يعدوا لها عدتها فيقع الضرر الكبير على الأقطار المصرية , وعلى ما جاورها , فصار ذلك رحمة بهم وبغيرهم من الخلق . ألا ترى كيف شمل الجدب البلاد المصرية وشمل البلاد الشامية وفلسطين وغيرها حتى احتاجوا إلى الاكتيال من مصر , واحتاج يوسف أن يقدر للجميع , ويوزع عليهم توزيعا عادلا فيه الرفق بالجميع والإبقاء عليهم ؟ وكان هذا العلم العظيم من يوسف هو السبب الأعظم في خروجه من السجن وتقريب الملك له من اختصاصه به وتمكينه من الأرض يتبوأ منها حيث يشاء , وهذا من إحسانه , والله لا يضيع أجر المحسنين . ومع هذا الفضل فضل الله أعظم من ذلك , يصيب برحمته من يشاء ممن يختاره , ويختص ويجمع له خير الدنيا والآخرة
من كتاب فوائد مستنبطة من قصة يوسف عليه السلام
تأليف العلامة الشيخ
عبد الرحمن بن ناصر السعدي