إن خير ما عُمِرت به الأوقات وصُرفت فيه الأنفاس الاشتغال بالعلم الشرعي ومدارسة الكتاب والسنة ؛ فإنَّ في ذلك أُنس النفوس وراحة القلوب وطمأنينة البال ، وبه يُعرف الحق من الباطل والحلال من الحرام والهدى من الضلال ، وبه يسير المرء إلى الله على بصيرة بخطًى ثابتةٍ وقلبٍ مطمئن { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22] .
لقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء لمن سمع كلامه ووعاه وبلَّغه كما سمعه بالنضرة ؛ وهي البهجة ونضارة الوجه وتحسينه ؛ ففي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ، ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ فَإِنَّ الدَّعْوَةَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ))[1] وقد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من عشرين صحابياً منهم : ابن مسعود ، ومعاذ بن جبل ، وأبو الدرداء ، وجبير بن مطعم ، وأنس بن مالك ، وزيد بن ثابت ، والنعمان ابن بشير ، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم ، ولذا عدَّه غير واحد من أهل العلم في جملة الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد تضمن هذا الحديث - كما بسط ذلك وبيَّنه العلامة ابن القيم[2] رحمه الله - دعوةً مباركة ميمونة خصَّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من سمع حديثه ووعاه وبلَّغه كما سمعه ، ولو لم يكن في فضل العلم وبيان شرفه إلا هذا الحديث وحده لكفى به شرفاً ؛ فإن هذه الدعوة النبوية الكريمة المباركة متضمنةٌ لجمال الظاهر والباطن ، فإنَّ النضرة هي البهجة والحُسن الذي يُكساه الوجه من آثار الإيمان ، وابتهاج الباطن به وفرح القلب وسروره والتذاذه به ، فتظهر هذه البهجة والسرور والفرحة نضارةً على الوجه ؛ ولهذا يجمع له سبحانه بين البهجة والسرور والنضرة كما في قوله تعالى { فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان:11] ، فالنضرة في وجوههم والسرور في قلوبهم ، ثم ما يتلقَّون من نعيم وثواب على ذلك يظهر نضارةً على وجوههم كما قال الله تعالى {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:24] .
ولا ريب أن هذه الدعوة المباركة لمن حمل السنة وبلَّغها للأمة بالنضرة والرحمة تحمل البشارة لمن وقف نفسه ووفَّر جهده في خدمة السنة وإبلاغها ؛ وفي هذا حفزٌ للهمم وإذكاءٌ للعزائم وحملٌ للنفوس على الجدِّ والمثابرة والصبر والمصابرة وبذل الوسع في تحقيق ذلك .
وقد دل الحديث على أن للعلم الذي استحق أهل هذه البشارة أربع مراتب :
v أولها وثانيها : سماعه وعقله ؛ فإذا سمعه ووعاه بقلبه أي عقَله واستقر في قلبه كما يستقر الشيء الذي يوعى في وعائه ولا يخرج منه وكذلك عقَله هو بمنزلة عقل البعير والدابة ونحوها حتى لا تشرد وتذهب .
v والمرتبة الثالثة : تعاهده وحفظه حتى لا ينساه فيذهب .
v والمرتبة الرابعة : تبليغه وبثّه في الأمة ليحصِّل به ثمرته ومقصوده ؛ وهو بثُّه في الأمة ، فهو بمنزلة الكنز المدفون في الأرض الذي لا ينفق منه وهو معرَّض لذهابه ، فإنَّ العلم ما لم يُنفَق منه ويعلَّم فإنه يوشك أن يذهب ، فإذا أُنفِق منه نما وزكا على الإنفاق .
ولما كان هذا الثواب العظيم لمن بلَّغ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتقر كسائر الأعمال إلى الإخلاص لله وعقد النية على النصح للمسلمين ولزوم جماعتهم عقَّب صلى الله عليه وسلم دعوته الميمونة المباركة لمبلِّغي سنته بما يدل على أهمية الإخلاص في الأعمال لله والنصح للمسلمين ولزوم جماعتهم بقوله صلى الله عليه وسلم ((ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ : إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ ، وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ )) قال ذلك صلى الله عليه وسلم لأن هذه الخصال الثلاث تُستصلح بها القلوب وتهذَّب بها النفوس ، وباستشعارها وعقد القلب عليها يكون المسلم جديراً بتحصيل الثواب الجزيل والأجر العظيم المذكور في الحديث .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث ((ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ )) دلالة على أن قلب المسلم لا يحمل الغلَّ ولا يبقى فيه الغش إذا كان متصفاً بهذه الصفات الثلاث المذكورة في الحديث ؛ لأنها تنفي الغش وتبعده من القلب ، فالمخلص لله إخلاصه يمنع غلَّ قلبه ويخرجه ويزيله جملةً لأنه قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته إلى مرضاة ربه وطلب ثوابه فلم يبقَ فيه موضعٌ للغلِّ والغش كما قال تعالى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] ، فلما أخلص لربه صرف عنه دواعي السوء والفحشاء ، ولهذا لما علِم إبليس أنه لا سبيل له على أهل الإخلاص استثناهم من شرطته التي اشترطها للغواية والإهلاك فقال : {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82-83] ، وقال تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42] . فالإخلاص هو سبيل الخلاص ، والإسلام مركب السلامة ، والإيمان صِمام الأمان .
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث (( وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ )) هذا أيضاً منافٍ للغل والغش ؛ فإنَّ النصيحة لولاة الأمر لا تجامع الغلَّ إذ هي ضده ، فمن نصح الأئمة والأمة فقد برئ من الغل .
والنصح لأولي الأمر من المسلمين إنما يكون بالسمع والطاعة لهم في المنشط والمكره أبراراً كانوا أو فجَّارا ، وإنما الطاعة في المعروف فإن أمروا بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وإرشادهم للخير وترغيبهم فيه وتحذيرهم من الشر وتنفيرهم منه ، والدعاء لهم بالصلاح والمعافاة وعدم الدعاء عليهم ، والحذر من نزع يد الطاعة أو قتالهم أو الخروج عليهم لمنافاة ذلك للنصيحة ، لأن جماع النصيحة عناية القلب للمنصوح له كائناً من كان .
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث (( وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ )) هذا أيضاً مما يطهِّر القلب من الغل والغش ؛ فإن صاحبه للزومه جماعة المسلمين يحب لهم ما يحب لنفسه ، ويكره لهم ما يكره لها ، ويسوءه ما يسوؤهم ، ويسرُّه ما يسرُّهم ، مع الموافقة لهم في العقيدة والعمل والحذر من الخروج عن زمرتهم ؛ لئلا تتلقَّفه الشياطين التي تعمل في الإنسان أعظم من عمل الذئاب فيما يندُّ من الغنم .
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث (( فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ )) هو من أحسن الكلام وأوجزه وأفخمه معنى ؛ حيث شبَّه دعوة المسلمين بالسور والسياج المحيط بهم المانع من دخول عدوهم عليهم، فتلك الدعوة التي هي دعوة الإسلام - وهم داخلوها - لما كانت سواراً وسياجاً عليهم أخبر صلى الله عليه وسلم أن من لزم جماعة المسلمين أحاطت به تلك الدعوة التي هي دعوة الإسلام كما أحاطت بهم ، فالدعوة تجمع شمل الأمة وتلمُّ شعثها وتحيط بها ، فمن دخل في جماعتها أحاطت به وشم لته ، وبذلك أيضا يكون للمسلم الملازم لجماعة المسلمين نصيبٌ من دعواتهم الطيبة التي تصدر من آحادهم شاملةً لعمومهم .
والله وحده المسئول والمرغوب إليه والمأمول أن يجعل أعمالنا كلها خالصةً لوجهه موافقةً لسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن يوفقنا للنصيحة للمسلمين جميعهم أئمتهم وعامتهم ، وأن يرزقنا لزوم جماعتهم ، وأن يغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنه هو الغفور الرحيم .
********
________________
[1] رواه الترمذي (2658) ، وابن ماجه (232) ، وأحمد (1/437) ، وابن حبان (66) وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (6766) .
[2] في كتابه ( مفتاح دار السعادة ) (1/71) وما بعدها .