الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم وبارك على من لا نبي بعده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد؛ فسبق أن كتبت كلمة بعنوان: (ليس من الدعاء ((سيؤتينا الله من فضله إنا إلى الله راغبون))) نشرت في 4/1/1433هـ، نبهت فيها على عدم صحة نسبة الدعاء في ذلك لشيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله بعد التشهد الأخير في الصلاة، وعلى ما اشتمل عليه تسجيل لأحد المشايخ قال فيه: ((إذا ضيِّق عليك في الرزق قل: حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله إنا إلى الله راغبون)) الخ.
وأنبه في هذه الكلمة على تجربتين لهذا الشيخ:
الأولى: ما جاء في تسجيل مقطع له يُتناقل في بعض الجوالات قال فيه: ((وقد قلنا بالتجربة أن الإنسان إذا كان مبتلى بسحر أو عين أو مرض عضال لو أتى الحجْر واستقبل الكعبة وقال: اللهم إنك قلت وقولك الحق: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ}، اللهم أقمني مما أنا فيه، يُرجى أن يُرفع عنه برحمة الله الضر، يرجى ولا يجزم، لكن جاءنا بعض أهل البلاء ممن لهم سنون فيعني أراد الله أن يرشدهم إلى هذا الصنيع فرفع الله برحمته وفضله وإحسانه ما بهم من بلاء؛ لأن الله يقول: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ}، قياماً لهم في أمر دينهم وقياماً لهم في أمر دنياهم، ولا يشترط دعاء بعينه لكن لو ذكر صدر الآية لكان أولى لو قال: اللهم أقمني من كذا وكذا ثم يدعو بما شاء)).
ولا وجه لهذا الدعاء لدفع الأمراض ولا لتعيين مكانه وهو الحجْر؛ لأنه لا أصل لهذا الدعاء ولا لمكانه، وخير من تكلف هذا الدعاء بالتجربة وهو مما ليس له أصل في الشرع الإرشاد والتوجيه إلى ما جاء به الشرع من سبب نافع والدعاء عنده، وهو شيء قريب من الكعبة الشرب من ماء زمزم، فبدلاً من توجيه الناس إلى هذا الدعاء في الحجْر لدفع البلاء يكون توجيههم إلى الشرب من ماء زمزم والدعاء عند شربه لدفع ما حل بالداعي من بلاء؛ فقد ورد في فضل هذا الماء حديث أبي ذر الطويل في صحيح مسلم (6359)، وفيه: ((إنها مباركة، إنها طعام طعم))، ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده (459) بإسناد مسلم وزاد فيه: ((وشفاء سقم))، وورد في فضله أيضاً حديث جابر رضي الله عنه مرفوعاً: ((ماء زمزم لما شرب له)) أخرجه ابن ماجه (3062) وغيره، وقد حسَّنه بعض أهل العلم وصححه بعضهم، انظر ذلك في إرواء الغليل للألباني رحمه الله (1123)، قال ابن القيم في زاد المعاد (4/392): ((ماء زمزم سيد المياه وأشرفها وأجلّها قدراً، وأحبّها إلى النفوس وأغلاها ثمناً، وأنفسها عند الناس))، ومن خير ما يرشد إليه من الدعاء لرفع البلاء ما ثبت في صحيحي البخاري (5743) ومسلم (5707) عن عائشة رضي الله عنها: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوِّذ بعض أهله يمسح بيده اليمنى ويقول: اللهم رب الناس، أذهب البأس، اشفه وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً)).
ومما يناسب إيراده عند ذكر هذه التجربة وغيرها من التجارب المماثلة ما قاله الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تفسيره عند تفسير آية السعي بين الصفا والمروة قال: (({وَمَن تَطَوَّعَ} أي: فعل طاعة مخلصاً بها لله تعالى، {خَيْرًا} من حج وعمرة وطواف وصلاة وصوم وغير ذلك، {فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} فدل هذا على أنه كلما ازداد العبد من طاعة الله ازداد خيره وكماله ودرجته عند الله لزيادة إيمانه، ودلَّ تقييد التطوع بالخير أن مَن تطوع بالبدع التي لم يشرعها الله ولا رسوله أنه لا يحصل له إلا العناء وليس بخير له، بل قد يكون شراً له إن كان متعمداً عالماً بعدم مشروعية العمل))، وإن تحقق لبعض الناس شيء مما أرادوه فهو من الابتلاء الذي ينصرف به الناس عن الأدعية الشرعية إلى التجارب المحدثة.
الثانية: ما جاء في تسجيل له عمن لم يُرزق بالذرية أنه يدعو أربعين مرة في سجوده بدعاء زكريا: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ}، قال فيه: ((بالتجربة عند الكثير لا نستطيع أن نقول أنه واجب أن من قال: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ}، أربعين مرة بقصد الدعاء في سجوده في إحدى سجداته يعني صلى ركعتين نافلة وقال في سجوده {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ}، أربعين مرة أنه يرزق بنية أن يدعو فإن قال قائل من أين أتيتم بالأربعين قلنا الأربعين مذكورة فضلا في القرآن قال الله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}، هذا واحد ثم إن التجربة دلت يعني من جرب هذا وقالها أربعين مرة دلت التجربة على أنه يرزق)).
ولا شك أن خير الدعاء وأحسنه ما جاء منه في الكتاب والسنة المطهرة، وقد جاء الدعاء في ذلك في القرآن عن زكريا عليه الصلاة والسلام في موضعين وعن إبراهيم عليه الصلاة والسلام في موضع واحد، قال الله عز وجل في دعاء زكريا: {رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء}، وقال: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ}، وقال في دعاء إبراهيم: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}، فيدعو المسلم بهذه الأدعية ويكررها لكن بدون التقيد بعدد معين؛ لأن التقييد بالعدد يحتاج إلى دليل، وفي تكراره في سجوده أربعين مرة انشغال المصلي بالعد في سجوده أربعين مرة، وفي الاستدلال بالآية على فضل تكرار الدعاء أربعين مرة تكلف، وهو نظير استدلال جماعة التبليغ بها على خروجهم لدعوتهم أربعين يوماً! قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في مجموع فتاواه (10/394ـ395) عن طائفة من الصوفية قال: (( وطائفة يجعلون الخلوة أربعين يوماً ويعظمون أمر الأربعينية ويحتجون فيها بأن الله تعالى واعد موسى عليه السلام ثلاثين ليلة وأتمها بعشر)).
والمأمول من هذا الشيخ وفقه الله العناية بتوجيه الناس إلى ما ورد في السنة وعدم شغلهم بتجارب لم يأت بها سنة.
وأسأل الله عز وجل أن يوفق المسلمين في كل مكان إلى الفقه في الدين والثبات على الحق والهداية إلى الصراط المستقيم، إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
-