التهنئة بدخول شهر رمضان والحث على اغتنامه-لمعالي الشيخ الدكتور صالح الفوزان
بسم الله الرحمن الرحيم
التهنئة بدخول شهر رمضان والحث على اغتنامه-
الحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة ومن أجَلّها نعمة الإسلام، الذي من جملته فريضة الصيام، لما فيه من رفعة الدرجات، وتكفير الآثام، وأشهد أن لا إله إلى الله وحده لا شريك له، القائل في محكم تنزيله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ ...الصِّيَامُ) [البقرة: 183]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أتقى من صلى وصام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس، اتقوا الله تعالى واشكروه إذ بلغكم شهر رمضان، واسألوه أن يوفقكم لاغتنامه بالصيام والقيام وسائر خصال الإيمان، فإنه موسم عظيم لفعل الخيرات، وتكفير السيئات فاعرفوا قدره وعظموا أمره، وتزودوا فيه لأنفسكم من صالح الأعمال، ما دمتم في زمن الامهال، فصوم رمضان أحد أركان الإسلام، قد فرضه الله بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) [البقرة: 183]، وقوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185]؛ فيجب على المسلم البالغ العاقل الذي لا عذر له يمنعه من الصيام أن يصوم هذا الشهر إذا أدركه وهو صحيح مقيم، وإن أدركه وهو مريض لا يستطيع الصيام، أو مسافر سفراً مسافة القصر فإنه يفطر بنية أن يصوم إذا زال عذره ويقضي قدر الأيام التي أفطرها من شهر آخر، قال تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 185]، وكذا من أدركه الشهر وهو كبير هرم أو مريض مرضاً مزمنا لا يرجى زواله ولا يستطيع الصيام فإنه يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا ولا قضاء عليه، قال تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) [البقرة: 184]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا"، ومقدار ما يدفع عن كل يوم مد من البر أو نصف صاع من غيره، والحائض والنفساء تفطران في رمضان وتقضيان عدد الأيام التي أفطرنا من شهر آخر، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة" متفق عليه، والصغير الذي لم يبلغ لا يجب عليه الصيام لكن يؤمر به إن كان يطيقه ليتدرب على العبادة ويكون له نافلة، ومن زال عذره في أثناء نهار رمضان وجب عليه الإمساك بقية اليوم ويقضيه، كما لو قدم المسافر أو شفي المريض أو طهرت الحائض أو بلغ الصبي في أثناء النهار فلا يجوز لكل منهم أن يستمر في الافطار، بل يمسك بقية اليوم إحتراماً للوقت، والمسافر إذا نوى إقامة في أثناء سفره أربعة أيام فأكثر فإنه يلزمه الصوم سواء كان في بلد أو في بر، وإن كانت إقامته تقل عن أربعة أيام ونوى إقامة لا يدري متى تنتهي فإنه يفطر.
عباد الله، والصوم هو الإمساك عن المفطرات بنية، من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، قال تعالى: (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [البقرة: 187]؛ فبين لنا سبحانه في هذه الآية الكريمة أن بداية الصيام تكون بطلوع الفجر وأن نهايته تكون بغروب الشمس، وحث النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- على تأخير السحور وتعجيل الإفطار بحيث ينتهي السحور بطلوع الفجر ويبدأ الإفطار بغروب الشمس امتثالاً لأمر الله سبحانه والتزاماً لحكمه، فيحرم تأخير السحور عن طلوع الفجر وتقديم الإفطار قبل غروب الشمس، ولا يصح صوم من تعمد ذلك ولا ينبغي التبكير بالسحور قبل آخر الليل، ولا تأخير الإفطار عن غروب الشمس؛ لأن ذلك مخالفة لما شرعه الله، قال تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة: 229].
عباد الله، ويبطل الصيام بالأكل والشرب متعمداً، ومثل الأكل والشرب ما في حكمهما من تناول الحبوب وحقن الإبر والتقطير في العين أو الأنف أو الأذن أو استعمال البخاخ في الأنف أو الحلق؛ لأن هذه الأشياء تنفذ إلى الجوف والعروق أو تصل إلى الدماغ فهي بمعنى الأكل والشرب، وقد رخص بعض العلماء في حقن الإبر في العضل يجد لها الإنسان تأثيراً في جسمه أو تنشيطاً يوقع في الريبة. ومن مبطلات الصوم التقيء متعمداً، أما إن غلبه القيء وخرج بغير اختياره فلا حرج عليه لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من ذرعه القيء – أي غلبه – فليس عليه قضاء، ومن استقاء – أي استدعى القيء- عمداً فليقض" رواه الخمسة إلا النسائي، ومن مفسدات الصوم الحجامة لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أفطر الحاجم والمحجوم" رواه أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم وصححاه، ومثل الحاجم سحب الدم من الصائم إذا كان كثيراً سواء كان سحبه للتبرع به أو لإسعاف مريض أو غير ذلك، ومن مبطلات الصوم الجماع في نهار رمضان، فالجماع مفسد للصيام بالنص والإجماع، ومن فعله فعليه قضاء ذلك اليوم الذي جامع فيه، وعليه أيضا الكفارة وهي عتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً.
أيها المسلمون، هذه المفطرات الحسية التي يؤمر فاعلها بالقضاء، وهناك مفطرات معنوية تخل بالصيام وتجرحه وتبطل ثوابه أو تنقصه ولا يؤمر فاعلها بالقضاء وهي الغيبة والنميمة وقول الزور والشتم والسباب، والنظر إلى ما حرم الله النظر إليه، واستماع ما حرم الله الاستماع إليه من الأغاني والمزامير والغيبة والنميمة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا كان يوم صوم امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وللصائم فرحتان إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقى ربه فرح بصومه" متفق عليه، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" رواه البخاري وغيره.
أيها المؤمنون، واعلموا أن من أكل أو شرب ناسياً فلا حرج عليه ولا يبطل بذلك صومه، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه" رواه البخاري ومسلم وغيرهما ويجوز للصائم أن يتطيب وأن يشم الطيب ولا يؤثر ذلك على صيامه، ويجوز للصائم أن يتبرد بالماء بأن يصبه على رأسه أو جسمه وأن يدخل في مكان بارد؛ لأن ذلك يعينه على الصيام، وإن طار إلى حلقه غبار أو ذباب لم يضره ذلك؛ لأنه بغير اختياره، وكذا لو انجرح أو خلع ضرساً؛ فخرج منه دم أو أصابه رعاف لم يؤثر ذلك على صيامه.
أيها المسلمون، حافظوا على صيامكم من المفسدات والمنقصات، وأكثروا من فعل الطاعات واكثروا من الدعاء والذكر وتلاوة القرآن في هذا الشهر المبارك، واخلصوا النية واسألوا الله القبول، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) [البقرة: 183] – إلى قوله- (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [البقرة: 187].
( من كتاب الخطب المنبرية، لمعالي الشيخ الدكتور صالح الفوزان/ ج1)