ذكر أوصاف القرآن العامة الجامعة
قد وصف الله كتابه بأوصاف جليلة عظيمة تنطبق على جميعه ، وتدل أكبر دلالة على أنه الأصل والأساس لجميع العلوم النافعة ، والفنون المرشدة لخير الدنيا والآخرة :
وصفه بالهدى والرشد ، والفرقان ، وأنه مبين وتبيان لكل شيء ; فهو في نفسه هدى ، ويهدي الخلق لجميع ما يحتاجونه من أمور دينهم ودنياهم ، ويرشدهم إلى كل طريق نافع ، ويفرق لهم بين الحق والباطل ، والهدى والضلال ، وبين أهل السعادة والشقاوة بذكر أوصاف الفريقين ، وفيه بيان الأصول والفروع بذكر أدلتها النقلية والعقلية ، فوصفه بهذه الأوصاف المطلقة العامة التي لا يشذ عنها شيء في آيات كثيرة .
وقيد هدايته في بعض الآيات بعدة قيود : قيد هدايته بأنه هدى للمؤمنين المتقين ; لقوم يعقلون ، ويتفكرون ، ولمن قصده الحق ، وهذا بيان منه تعالى لشرط هدايته ; وهو أن المحل لا بد أن يكون قابلا وعاملا ، فلا بد لهدايته من عقل وتفكير وتدبر لآياته ; فالمعرض الذي لا يتفكر ولا يتدبر آياته لا ينتفع به ، ومن ليس قصده الحق ولا غرض له في الرشاد ، بل قصده فاسد ، وقد وطن نفسه على مقاومته ومعارضته ، ليس له من هدايته نصيب ; فالأول حرم هدايته لفقد الشرط ، والثاني لوجود المانع ; فأما من أقبل عليه ، وتفكر في معانيه وتدبرها بحسن فهم ، وحسن قصد ، وسلم من الهوى ، فإنه يهتدي به إلى كل مطلوب ، وينال به كل غاية جليلة ومرغوب .
ووصفه بأنه رحمة ، وهي الخير الديني والدنيوي والأخروي المترتب على الاهتداء بالقرآن ، فكل من كان أعظم اهتداء به فله من الرحمة والخير والسعادة والفلاح بحسب ذلك .
ووصفه بأنه نور ، وذلك لبيانه وتوضيحه العلوم النافعة ، والمعاني الكاملة ، وأن به يخرج العبد من جميع الظلمات : ظلمات الجهل والكفر والمعاصي والشقاء ، إلى نور العلم واليقين والإيمان والطاعة والرشاد المتنوع .
ووصفه بأنه شفاء لما في الصدور ، وذلك يشمل جميع أمراض القلوب ; فهو يوضح أمراض القلوب ويشخصها ، ويرشد العباد إلى كل وسيلة يحصل بها زوالها وشفاؤها ، فيذكر لهم أمراض الجهل والشكوك والحيرة وأسباب ذلك ، ويرشدهم إلى قلعها بالعلوم النافعة واليقين الصادق ، وسلوك الطرق الصحيحة المزيلة لهذه العلل ، ويذكر لهم أمراض الشهوات والغي ، ويبين لهم أسبابها وعلاماتها وآثارها الضارة ، ويذكر لهم ما به تعالج من المواعظ والتذكر والترغيب والترهيب ، والمقابلة بين الأمور ، وترجيح ما ترجحت مصلحته العاجلة والآجلة .
ووصفه بأنه كله محكم ، وكله متشابه في الحسن ، وبعضه متشابه من وجه ، محكم من وجه آخر .
فأما وصفه في عدة آيات أنه كله محكم ، فلبلاغته وبيانه التام ، واشتماله على غاية الحكمة في تنزيل الأمور منازلها ، ووضعها مواضعها ، وأنه متفق غير مختلف ، ليس فيه اختلاف ولا تناقض بوجه من الوجوه .
وأما حسنه فلما فيه من البيان التام لجميع الحقائق ، ولأنه بين أحسن المعاني النافعة في العقائد والأخلاق والآداب والأعمال ، فهي في غاية الحسن لفظا ومعنى ، وآثارها أحسن الآثار ، وكل هذه المعاني المثناة في القرآن يشهد بعضها لبعض في الحسن والكمال ، ويصدق بعضها بعضا .
وأما وصفه بأن منه آيات محكمات هن أم الكتاب ، وأخر متشابهات ، فالمتشابهات هي التي يقع الإشكال في دلالتها لسبب من الأسباب اللفظية والعبارات المركبة ، فأمر الله بردها إلى المحكمات الواضحة ، بينة المعاني ، التي هي نص في المراد ; فإذا ردت المتشابهات إلى المحكمات صارت كلها محكمات ، وزال الشك والإشكال ، وحصل البيان للهدى من الضلال .
ووصفه بأنه كله صلاح ، ويهدي إلى الإصلاح ، وإلى أقوم الأمور وأرشدها وأنفعها في كل شيء من دون استثناء ، وهذا الوصف المحيط لا يخرج عنه شيء ، فهو إصلاح للعقائد والقلوب ، وللأخلاق والأعمال ، ويهدي إلى كل صلاح ديني ودنيوي بحيث تقوم به الأمور ، وتعتدل به الأحوال ، ويحصل به الكمال المتنوع من كل وجه بالإرشاد إلى كل وسيلة نافعة تؤدي إلى المقاصد والغايات المطلوبة ، فلا سبيل إلى الهداية والصلاح والإصلاح لجميع الأمور إلا بسلوك الطرق التي أرشد إليها القرآن ، وحث العباد عليها .
فمتى عرفت أن القرآن العظيم موصوف كله بهذه الأوصاف التي هي أعلى الأوصاف وأكملها وأتمها وأنفعها للعباد ، وأنه أعيدت فيه هذه المعاني الجليلة ، ومزجت فيه مزجا عجيبا غريبا في كماله وحسنه ، فهمت أن طالب العلم إذا وقف على تفسير بعض الآيات تدرب بها ، وتوسل بها إلى معرفة بقية الآيات .
لهذه الأسباب وغيرها رأينا أن المصلحة تدعو إلى الاقتصار على خلاصة ذلك التفسير ; راجين من الرب أن يتم نعمته ، وأن يحصل به المقصود ; ورأينا أن الأحسن أن نذكر كل موضوع على حدته ، لما فيه من التقريب والسهولة وجمع المعاني التي من فن واحد في موضع واحد ; مع أنه - كما تقدم - لا بد أن يدخل في آيات الأصول كثير من الفروع ، وفي آيات الفروع كثير من الأصول ، ويدخل فيها من الترغيب والترهيب والقصص شيء كثير ; وهذا المزج العجيب من كمال القرآن وعظم تأثيره ، فإنه كتاب تعليم يزيل الجهالات المتنوعة ، وكتاب تربية يقوم الأخلاق والأعمال ، فهو يعلم ويقوم ويهذب ويؤدب بأعلى ما يكون من الطرق ، التي لا يمكن للحكماء والعقلاء أن يقترحوا مثلها ، ولا ما يقاربها .
من كتاب : تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن
المؤلف : عبد الرحمن بن ناصر السعدي