الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد :
فهذا تفسير موجز للآيات الكريمة من سورة الفرقان، وهي المتعلقة بصفات عباد الرحمن
بسم الله الرحمن الرحيم
? وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً. وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً. وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً. إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً. وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً. وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً. إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً. وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً. وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً. وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً. وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً. أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً. خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً. قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً.? (الفرقان:63-77)
بيّنت هذه الآيات الكريمة صفات عباد الرحمن وأخلاقهم، وتعاملهم مع ربهم، وتعاملهم مع الناس، وبينت عقيدتهم وتصرفهم في أموالهم، وتلقيهم لآيات الله حين يُذَكَّرون بها .
انظر كيف وصف الله هيأتهم في مشيتهم، فقال :{ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً } يمدحهم الله بهذه الهيئة النابعة عن التواضع لله ربّ العالمين، وذلك التواضع من الآداب العالية في جميع الملل .
وانظر إلى لقمان كيف أوصى ولده بهذا الأدب، قال تعالى : {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً } والله عز وجل قال :{وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً }(الإسراء:37 ) فهذه إهانة من الله تبارك وتعالى للمَرِحين المستكبرين؛ يقول له: من أنت حتى تتطاول على الناس ؟! فلن تبلغ الجبال طولا؛ يعني هذه إهانة له حتى يتواضع .
فهؤلاء العباد؛ عباد الرحمن يمشون هونا متواضعين لله رب العالمين، يمشون بسكينة ووقار غير مُتَصَنَّع وإنما تواضعاً لله وخفضاً للجناح للمؤمنين وغيرهم، يتواضعون لله عز وجل. {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً }
لكمال أخلاقهم وشرف نفوسهم لا يجارون السفهاء في الكلام القبيح وفي الكلام السفيه والوقح، وإنما يربؤون بأنفسهم ويشرِّفونها من الانحدار مع السفهاء الجهلاء إلى قول الجهل والفحش.
وإنما يقولون: (سلاما)؛ سلاما يَسلَمون فيه من الإثم وخرم المروءات والشرف؛ لأن التنازل مع السفهاء قد يخدش في كرامة النبلاء، فيتنـزهون عن البذاءة والفحش في الكلام ولو فُحِشَ عليهم، ولو أُسِيء إليهم ولو سُبُّوا فإنهم يقابلون ذلك بالأخلاق العالية من الصبر والحلم والكلام الطيب، حتى إنّ بعض الناس يسبّه بعض الناس فيقول: السلام عليكم:{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ }(القصص:55) .
وَلَقد أمُرُّ على اللَّئيمِ يَسُبُّني *** فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ : لا يَعْنِيني
ما كانوا يسمعون، فلا تكن لئيما مع اللئام، بل اثبت واحلم واصبر وردّ السيئة بالحسنة قال تعالى : { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ.}(فصلت :34 -35 ) .
فهذا درس أخلاقيّ يربينا الله عليه سبحانه وتعالى، ويبين لنا صفات أوليائه وأصفيائه، يعلمنا أخلاقهم، فكما نتلقى منهم الدين والعقيدة كذلك نتلقى منهم الأخلاق، ونسير على منوالهم ونترسّم خطاهم .
ونحن لا نقرأ القرآن للبركة، بل نقرأ القرآن لنعمل به ونقرأ السنة لنعمل بها ونتعلم العلم لنعمل.
فالإسلام دين تطبيق وعمل وليس دين نظريات : { وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ.} وكم من الآيات يحثّ فيها الله تعالى على العمل الجادّ .
{قالوا سلاما}
إما يقول: ( السلام عليك )، أو يقول كلاما طيبا ليّنا حكيما يسلم فيه من الوقوع في الإثم والطيش والفحش .
{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً }
الآية الأولى في التعامل مع الله ومع عباده وهذه في التعامل مع ربّ العالمين؛ يحبون الله ويعظِّمونه ويرجون رحمته ويخشون عذابه سبحانه وتعالى.
فيعبدون الله تبارك وتعالى؛ يقومون الليل، لكن ليس الليل كله كما علمنا رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ فإن شريعتنا دين الوسط ليس فيها رهبانية وليس فيها الجفاء وإنما هو دين الوسط، ولهذا لما تشدّد بعض الصحابة وقال بعضهم : أقوم ولا أنام وقال بعضهم :أصوم ولا أفطر وقال بعضهم : لا أتزوج النساء غضب رسول الله عليه الصلاة والسلام وقال : (ما بال أقوام قالوا كذا وكذا ؟ لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني )(1) .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الليل ولا يزيد على إحدى عشر ركعة أو ثلاث عشرة ركعة وقد ينقص عليه الصلاة والسلام .
وكان عبد الله بن عمرو ممن يصوم النهار ويقوم الليل فبلغ ذلك رسول الله فأنكر عليه صلى الله عليه وسلم؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألم أنبأ أنك تقوم الليل وتصوم النهار ) ؟ فقلت : نعم فقال: ( فإنك إذا فعلت ذلك هجمت العين ونفهت النفس صم من كل شهر ثلاثة أيام فذلك صوم الدهر أو كصوم الدهر ) . قلت : إني أجد بي - قال مسعر يعني قوة – قال: ( فصم صوم داود عليه السلام وكان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى )(2) .
وعلّمه أن يصلي صلاة داود؛ ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه.
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما . وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه )(3) .
فأرشد عبد الله بن عمرو إلى أن يقوم قيام داود ويصوم صيامه؛ لأنه لا أفضل من قيامه ولا من صيامه، وكان لا يفر إذا لاقى؛ كان مجاهدا وكان من صفاته الشجاعة؛ كان يجمع بين العبادة وبين الشجاعة عليه الصلاة والسلام .
فنقوم الليل ولكن على النهج الذي شرعه رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأن الدين لا يشادّه أحد إلا غلبه.
دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين ساريتين فقال ( ما هذا الحبل ؟) . قالوا: هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت . فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا، حُلُّوه ليصلّ أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد )(4).
وقال صلى الله عليه وسلم : (إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقدن حتى يذهب عنه النوم فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه)(5)؛ لأن النوم يؤدي إلى خلل في عقل الإنسان قد يفقد وعيه فيقول مالا يريد.
فدين الله وسط؛ هذه الشريعة وسط ليس فيها شدة وليس فيها يهودية وليس فيها نصرانية، وإنما هي دين الوسط.
{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } يصلون صلاة الخاشعين وسجود الخاشعين وركوع الخاشعين المخبتين: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } سجود الخاشعين وركوعهم، وأثنى الله عليهم في آيات: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً }( الفتح:29) وصفهم الله تبارك وتعالى بهذه الصفات بأنهم أشدّاء على الكفار رحماء بينهم، {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } (المجادلة:22) .
وأخشى على كثير من الذين يعيشون في بلاد الكفار أن تكون هناك موادّة بينهم وبين الكفار ! أخاف على كثير وكثير منهم - والعياذ بالله-؛ لأن هذا الولاء كفر :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } (المائدة:51) .
والتولّي هو الودّ والمحبة والنصرة؛ فإذا توليته ونصرته على الدين الإسلامي وأحببته وودته هذا كفر لا غبار عليه، وقد تحصل موالاة بدون هذا؛ لأجل الدنيا فقط فيقع في الإثم الكبير.
فالأولى بالمسلم أن لا يعيش إلا في بلاد المسلمين وأن لا يجالس إلا الأخيار؛خيار المسلمين حتى في بلاد الإسلام تجتنب جلساء السوء .
{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } هذا الشرح الذي ذكرناه لكم؛ يعني ليس كل الليل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا، وكان يقوم وينام ويصوم ويفطر عليه الصلاة والسلام. وبينت عائشة أنه ما كان يزيد على إحدى عشر ركعة لكنه يطيلهن(6) -عليه الصلاة والسلام - ليس مثل صلاة الناس الآن.
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ }
يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالحنة وبالنار، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تحدث عن الجنة والنار فكأنما هي رأي العين أمامهم لقوة إيمانهم .
فعلى الإنسان أن يقوِّي إيمانه بتلاوة القرآن وتدبّره والإكثار من دراسة حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام ليزداد إيمانه ويقوى، ويقوي يقينه فكأنما يرى النار، وإذا عبد الله فكأنما يراه، فإن لم يكن يراه فليعتقد أن الله يراه.
فعباد الرحمن يؤمنون بهذه النار ويعرفون شدتها وفضاعتها وخزي أهلها فيستعيذون بالله منها ويلجأون إليه مستجيرين مستغيثين، ضارعين خائفين وجلين: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } عذاب الكفار غرام ملازم لهم أبد الآبدين، لو يريدون أن يستريحوا منه لحظة لا يجدون ذلك، ولا يموتون فيها ولا يحييون فيلازمهم العذاب بسبب كفرهم بالله وشركهم به وارتكابهم معاصيه .
فهؤلاء يعملون الأعمال الصالحات ويجتنبون القبائح والسيئات وعلى رأسها الكفر ولا يكتفون بذلك بل يضرعون إلى الله أن ينجّيهم من النار؛ لأن المرء لا يضمن لنفسه الجنة، فيلجأ إلى الله تبارك وتعالى أن يقيه عذاب النار.
ولهذا علّمنا رسول الله عليه الصلاة والسلام في كل صلاة نصليها فريضة أو نافلة أن نستعيذ بالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ بالله من أربع؛ من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر المسيح الدجال) (7) .
فلا يغترّون بإيمانهم وأعمالهم الصالحة وعبادتهم وقيام الليل ويقولون : نحن قمنا بهذه الأشياء فلنا الجنة ! كما يتصور بعض السفهاء وأهل البدع والضلال !!
كان الصحابة- رضوان الله عليهم - ؛قال ابن أبي مليكة : " أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه "(
.
وقال الحسن : " ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق "(
.
فمن شدة حذرهم والبعد عن الغرور والإعجاب بالنّفس وبالعمل كانوا يخافون على أنفسهم النفاق، فهل نحن كذلك يا أخوة ؟! هل نجد هذه الروح وهذا الإحساس وهذه المشاعر ؟! أننا نخاف على أنفسنا : { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } ( الأعراف:99)
فلا تأمنوا، وقولوا : { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } (آل عمران:
وادعوا الله كثير بهذا الدعاء
يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك).
فيجب على المؤمن أن يكون خائفًا وجلاً؛ يخاف أن ينتكس، يخاف أن يزيغ قلبه، يخاف أن يقع في النفاق؛ النفاق العملي، والنفاق العملي إذا تمادى الإنسان فيه قد يقع في النفاق الإعتقادي -والعياذ بالله - .
فهم لا يركنون إلى أعمالهم، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول : ( لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ قالوا: ولا أنت يا رَسُولَ اللَّهِ ؟! قال : لا، ولا أنا إلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي الله بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ )(9) ما قال : أنا أدخل الجنة بعملي ! ولكن اطلب من الله أن ينجّيك وأن يغفر لك وأن يبعدك عن النار واطمع في الله ولا تيأس، ارج الله، لكن لا يتغلَّب جانب الرجاء على جانب الخوف، فالمؤمن يجمع بين الخوف والرجاء؛ لا ييأس من روح الله ولا يأمن من مكر الله؛ فإن المؤمن متَّزِن؛ دائما يراقب نفسه ويخاف، فيخاف أن ينحرف وأن ينكص على عقبيه، بل يخاف على نفسه النِّفاق ويخاف على نفسه الرِدَّة .
فندعوا الله كثيرا (يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك)،{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } ،
{ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً }.
تدعو الله، تُخلص له، تؤدي الواجبات، تجتنب المحرّمات، تحرص على التطوعات وأنواع البرّ، ومع ذلك تلجأ إلى الله تبارك وتعالى أن يقيك عذاب النار.
بعض الناس يعتقد في نفسه أنه وليّ لله فلا يخاف على نفسه من الانحراف -والعياذ بالله- !
ويعتبرون الولاية وراثة ! هذا البيت الولاية فيه ! وهذا البلد أهله كلهم أولياء وينبتون في البلد الفلاني كما ينبت الزرع ! الشيطان يضحك عليهم ويلقِّنهم هذه الترهات !
وهذا حال المؤمنين أنهم بين الخوف والرجاء، فهذا عمر رضي الله عنه يقول عند موته : ( والله لو أَنَّ لي طِلَاعَ الأرض ذَهَبًا لَافْتَدَيْتُ بِهِ من عَذَابِ اللَّهِ عز وجل قبل أَنْ أَرَاهُ)(10)
شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، ومع ذلك كان يخاف خوفا شديدا على نفسه، وفتح الدنيا وكان يقول لأبي موسى : ( يا أَبَا مُوسَى هل يَسُرُّكَ إِسْلَامُنَا مع رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهِجْرَتُنَا معه وَجِهَادُنَا معه وَعَمَلُنَا كُلُّهُ معه بَرَدَ لنا وَأَنَّ كُلَّ عَمَلٍ عَمِلْنَاهُ بَعْدَهُ نَجَوْنَا منه كَفَافًا رَأْسًا بِرَأْسٍ .
فقال أبو موسى: لا والله؛ قد جَاهَدْنَا بَعْدَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَلَّيْنَا وَصُمْنَا وَعَمِلْنَا خَيْرًا كَثِيرًا وَأَسْلَمَ على أَيْدِينَا بَشَرٌ كَثِيرٌ وَإِنَّا لَنَرْجُو ذلك .
فقال عمر: لَكِنِّي أنا وَالَّذِي نَفْسُ عُمَرَ بيده لَوَدِدْتُ أَنَّ ذلك بَرَدَ لنا وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ عَمِلْنَاهُ بَعْدُ نَجَوْنَا منه كَفَافًا رَأْسًا بِرَأْسٍ)(11)
يعني الأعمال التي عملها بعد الرسول عليه السلام يريد السلامة منها ويريد الكفاف لا له ولا عليه .
كل هذا الجهاد وهذا العدل الذي ملأ به الدنيا و ..و إلى آخره وهو خائف؛ يريد السلامة وعند موته يقول: (والله لو أَنَّ لي طِلَاعَ الأرض ذَهَبًا لَافْتَدَيْتُ بِهِ من عَذَابِ اللَّهِ عز وجل قبل أَنْ أَرَاهُ ) من هول الموقف .
فهذا حال المؤمنين .
{إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً }
بئس المقرّ وبئس المقام، قبُحت وشنعت فإنها بئس المقر؛ حال أهلها لا تستطيع وصفهم من البلاء الذي ينزل بهم والهلاك والشرور والدمار، فهذا بئس المستقر وبئس المقام .
(ساء) هنا معناها بئس ،بئس المقام؛ لأنه مقام الكافرين ومقام العذاب الأليم الذي لا نستطيع أن نتصوره : { وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }(التحريم:6 ) .
{وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } نار الدنيا ليست كذلك، نار الدنيا جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءا من حر جهنم . قالوا : والله إن كانت لكافية يا رسول الله ! قال : فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلها مثل حرها )(12) .
( وَاشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الزَّمْهَرِيرِ)(13) .
فيها برودة مهلكة وفيها حرارة شديدة لا يستطيع الإنسان أن يتصورها : { إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ. كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ }(المرسلات:32-33) وهي نار عميقة الغور وهي دركات -والعياذ بالله- دركات ودركات والمنافقون في الدرك الاسفل من النار لخبثهم لأنهم أخبث من الكفار الواضحين.
والنفاق يوجد في هذه الأمة، وُجِد في عهد الرسول ومستمِّر الوجود في كل الأعصار والأجيال، وما نَشَر البدع؛ بدع الرفض وبدع الصوفية إلا الزنادقة المنافقون !! حلول وحدة الوجود، الشرك بالله، الرفض، تكفير الصحابة، الطعن فيهم، ما نشره إلا الزنادقة المنافقون، وينخدع بهؤلاء أناس عندهم إسلام ولكنهم على غاية من السفاهة والجهل والضلال، لا يميزون بين الحق والباطل ولا بين الهدى والضلال، فينخدعون بهؤلاء المنافقين فيقعون في حبائلهم -والعياذ بالله- !!
{وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً }
فهم يعرفون أن المال نعمة من الله تبارك وتعالى، وأن العبد مسؤول عن هذا المال من أين اكتسبه وفيما أنفقه ؟ فيتصرفون فيه باعتدال وبحكمة وبتوسط فلا تبذير وإسراف ولا تقتير، والإسراف مجاوزة الحد ؛يتجاوز الحد في الإنفاق فيسرف في مأكله وفي مشربه، ويتجاوز الحد المطلوب الذي ينبغي له؛ أي يضع المال في الحرام والمعاصي فيكون من أخبث أنواع الإسراف { إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين } .
{وَلَمْ يَقْتُرُوا } لم يبخلوا أن يضعوا المال في مواضعه، لم يبخل؛ يعني يؤدي الزكاة ويصل الأرحام وينفق على الفقراء والمساكين كما مدح الله تبارك وتعالى من يبذل الأموال في هذه الأبواب، فيضع الأموال في مواضعها، فلا إسراف ولا تقتير ولا بخل .
فلا يتَّصفون بصفات المسرفين والسفهاء الطائشين المبذرين، ولا يتَّصفون بصفة البخلاء الجبناء؛ لأن البخل والجبن متلازمان -والعياذ بالله- فهم في غاية الشرف وغاية الاعتدال في كل مقام ؛في مقام العبودية معتدلون، وفي الأخلاق معتدلون، وفي الأموال وتصرفاتهم معتدلون؛ لأنهم تأدَّبوا بمنهج الله وبدينه الحق، وعرفوا مقاصد الإسلام؛ فلا إسراف ولا تقتير .
وهذا من رعاية المال، المال من الضرورات التي يأمر الإسلام بالمحافظة عليها وهو كما يقال: عصب الحياة، فلا تُضيع الأموال في سبيل الشيطان، سبل الشيطان كثيرة، لا تنفق في سبل الشيطان ولا تبخل في أن تبذل المال في سبيل الله .
والمرء مأجور في كل ما ينفقه، حتى اللقمة يضعها في فِي امرأته، هذا المال الذي تنفقه على أهلك احتسبه لا بد أن تكون عندك نية، فإذا احتسبته تريد به وجه الله والقيام بالواجب الذي شرعه الله فهو في ميزان حسناتك، وإذا أنفقت لاهيا سقطت عنك المسئولية وتفوِّت على نفسك الأجر، استحضر دائما إرادة الله تبارك وتعالى في كلّ تصرفاتك حتى فيما تنفق على أهلك حتى اللقمة تضعها في فِي امرأتك فإنك تؤجر عليها.
واجتنب الإسراف وأغلق أبواب الإسراف فإنها أبواب الشيطان : {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ } ،{وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً }(الإسراء:29 ) ، البخل هو أن يغلّ اليد ويمسكها عن الإنفاق، والحرص والشحّ كذلك -والعياذ بالله- .
والإسراف يجعلك تضيِّع المال وتبدده في سبيل الشيطان .
فهؤلاء عباد الرحمن ليس للشيطان -إن شاء الله- عليهم سبيل، فلا يخدعهم فيدفعهم للإسراف ولا يخوِّفهم بالفقر : {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } (البقرة268 ) -والعياذ بالله- ؛ يقول لك : لا تنفق لا تضيِّع مالك، لماذا تفعل هكذا ؟! إذا أنفقت تصبح فقيرا !! ويأمرك بالفحشاء، وقد يفحش الإنسان على من يستحق المال فيسلقه بالكلام الفاحش، {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ. وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ تنهر } فقد يحتقر المسكين ويزدريه { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ. الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ. وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ.} (الماعون:4-7)؛ بخلاء .
{ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ }
كم صفة ؟ عدّوها : متواضعون، عُبَّاد، متوسطون في الإنفاق، صفات كثيرة جدا، يخافون الله ويضرعون إليه، هذه من صفاتهم، من صفاتهم الخوف من الله سبحانه وتعالى.
{ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ } يعني لا يشركون بالله، لا يتَّخذون مع الله أندادا، فلا يستغيثون بغير الله، ولا ينذرون لغير الله، ولا يذبحون لغير الله ولا يتوكلّون على غير الله ولا يرغبون إلى غير الله ولا يخافون إلا الله؛ خوف العبادة .
الخوف الطبيعي ليس شركا؛ تخاف من الحية، تخاف من عدو، هذا ليس شركا؛ أمور محسوسة، لكن الخوف الغيبي، خوف السرّ كما يقال؛ إنسان مدفون ميِّت تخاف أن يضرك هذا خوف شركي، لكن إنسان عنده مسدس يريد ضربك تخافه وتأخذ حذرك ، تتقي ما تستطيع، تقاتل، تلبس الدِّرع والدرقة، وتتقي السهام وتتقي الرِّماح وتتقي السيوف والآن تتقي الرصاص والصواريخ والحاجات هذه .
والخوف الطبيعي الذي تتقيه لا يضرّ ولا يخدش في العقيدة، لكن لا تبالغ فيه، اتقِّ فيه مع رجولة وشجاعة، ليس اتقاء الجبناء .
{ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ } يعني لا يتّخذون مع الله أندادا يحبونهم كحب الله ويستغيثون بهم ويلجأون إليهم عند الشدائد، برءاء من الشرك كله؛ من كل أصناف الشرك لا يدعونه، هذا مقام ثناء فليس عندهم شيء من أنواع الشرك بالله لا صغير ولا كبير، هذه هي العقيدة هذا هو الدّين الذي يجب الحفاظ عليه.
والمال يجب الحفاظ عليه : (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)(14) .
فالقرآن والسنة يحافظان على المال فلا تسرف فيه؛ لأنك تأثم، لأنك تعمل عمل الشياطين، والمال مال الله فتحافظ عليه وتضعه في مواضعه .
وتحافظ على دينك؛ فلا تشرك بالله شيئا، والحفاظ على الدين يجب أن يحافظ عليه المسلم وأن يجاهد في نشره، ولهذا شرع الجهاد؛ شُرع الجهاد لنشر الدين وحمايته؛ جهاد الدفع وجهاد الطلب، هذا لحماية هذا الدين.
والدين من الضرورات التي يجب الحفاظ عليها بكل ما نستطيع، والمال كذلك من الضرورات التي يجب الحفاظ عليها ولا نضعه إلا في مواضعه .
ولا يقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق؛ حماية للدماء والنفوس، لا يقتل النفس التي حرم الله، فالله حرم قتل النفس وقال : { مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً }(المائدة:32) .
وشرع لحماية النفوس والحفاظ عليها القصاص : {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }(البقرة179 ) كل هذه محافظة على النفس، وعيد شديد على من يقتل : {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً }(النساء:93 ) فهذه للحفاظ على النفوس؛ من يقتل منهم متعمِّدا فهذا جزاؤه.
والخلود هنا؛ إن كان مستحلاًّ لدم المسلم فهو خلود الكافرين؛ لأنه يكفر باستحلاله قتل النفس أو النفوس، وإن كان غير مستحل فالخلود: الدوام؛ الدوام الطويل، يعذِّبه الله عذابا طويلا، لكن في النهاية إن كان غير مستحل يخرجه الله بالتوحيد كما هو مذهب أهل السنة والجماعة في أن أهل الكبائر ومنها قتل النفس لا يخلَّدون في النار ولكن قاتل النفس عليه وعيد شديد -والعياذ بالله - إلا بالحق؛ يعني الشارع أباح قتل النفوس بالحق.
(لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة)(15) الثيب الزاني وهو المتزوج المحصن، إذا زنا وقد تزوج وأحصن فإن جزاءه الرجم؛ فيُقتَل ويباح دمه بهذا الذنب العظيم .
{وَلَا يَزْنُونَ } الزنا من الكبائر العظيمة وانتهاك أعراض الناس -والعياذ بالله - فلا يزني لا بمسلمة ولا بكافرة.
ولكن زناه بالمسلمة أشدّ وزناه بزوجة جاره أشدّ وأشدّ، ولهذا سأل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن أعظم الذنوب فقال صلى الله عليه وسلم : ( أن تجعل لله ندا وهو خلقك ) . قلت: إن ذلك لعظيم قلت: ثم أي ؟ قال: ( وأن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك ) . قلت ثم أي ؟ قال: ( أن تزاني حليلة جارك)(16)
فالجار له حقّ عظيم (والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن ) . قيل: ومن يا رسول الله ؟ قال: ( الذي لا يأمن جاره بوائقه)(17)، ومن أعظم البوائق والمهلكات أن تزني بزوجة جارك -والعياذ بالله - فهو من أعظم الكبائر .
فهذه من الحفاظ على النسب، الحفاظ على المال، الحفاظ على النفوس، الحفاظ على الأعراض والأنساب.
انظروا القرآن ماذا فيه من النصائح، فيه من الحكم ،فيه من الرحمة ،فيه من المصالح في الدنيا والآخرة مالا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى.
انظروا كيف يشدِّد في تبذير المال، كيف يشدِّد في الشرك بالله؛ لأنه هلاك، انتهاك لحقوق الله وعداوة لله وحرب على الله – الشرك بالله عز وجل - ،كيف يحافظ على الدماء، كيف الناس الآن ينتهكون الأعراض والدماء والأموال ؟!! الربا شائع ، السرقات، الرشوات، الخيانات، كل هذه يحاربها الإسلام حفاظا على المال.
قتل النفوس؛ انظروا الآن هذه الحروب، هذه الأسلحة المدمرة التي صنعها الكفار،أهل الحضارة -زعموا- حضارة تدمير وتخريب للدين والدنيا -والعياذ بالله- !!
نسأل الله أن يدمرهم ويدمر هذه الأسلحة التي دمرت الإنسانية، وهذه المبادئ الخبيثة التي دمرت الأديان والأخلاق، والله لا أسوأ من هذه الحضارة التي يتبجحون بها وما مرّ بالإنسانية أخبث منها، لا أخبث من هذه الحضارة الغربية -والعياذ بالله - يصنعون الأسلحة الفتّاكة للفتك بالبشرية لا لشيء ينفع وإنما للسيادة والسيطرة !!
وتسلطوا على الشعوب فأذلّوها ونهبوا ثرواتها وفعلوا الأفاعيل ويقولون: الحضارة ويعتبرون الديمقراطية حضارة -ما شاء الله -وهي والله وحشية ولا أخبث منها وقائمة على الكفر بالله عز وجل والإلحاد في دين الله عز وجل والمناهضة لشرع الله عز وجل ويسعون إلى نشرها في بلاد الإسلام لتحلّ محل الإسلام .
وترى كثيرا من البلدان الإسلامية تتهافت عليها : الديمقراطية، الديمقراطية .. وترى من الدعاة الإسلاميين من يقول : الديمقراطية روح الإسلام !!
الديمقراطية لا فيها احترام أموال ولا دماء ولا أعراض، اقتل مائة نفس وما تُقتَل ! والله يقول : {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ }.
أَنْشِئ البنوك لنهب أموال الناس ولا شيء في ذلك !! فهل هذه حضارة ؟!
فنسأل الله العافية، هذه من الاحتضار، الاحتضار يسوق البشرية إلى الموت والهلاك والدمار.
نكمل إلى هذا الحد نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
- المجلس الثاني :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه أما بعد:
فقد فسرتُ بعض الآيات من سورة الفرقان في صفات عباد الرحمن التي امتنّ الله عليهم بها، ووفقهم لها تفضلاً منه وتكرُّمًا على من يشاء من عباده سبحانه وتعالى.
ومنها قوله تبارك وتعالى :
{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً. إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً. وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً. وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً. وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً. وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً. أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً. خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً. قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} ( الفرقان : 68- 77 )
وفسرنا هذه الآيات إلى قوله :{ إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ }؛ فسرنا قوله تعالى : { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} الذي يرتكب هذه الجرائم يلق أثاما؛ جزاءً ونكالا على ما ارتكب من هذه الجرائم التي منها الشرك بالله تبارك وتعالى وقتل النفس الذي هو من أعظم الإفساد في الأرض؛ فقتل نفس واحدة يعدل قتل الناس جميعاً : {مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً } ( المائدة : 32 ) .
والزنا كذلك من أكبر الجرائم والذنوب :{إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً } ( الإسراء: 32 )، الذي يرتكب هذه الجرائم يلق أثاما: عذاباً شديداً ونكالاً - والعياذ بالله - إن كان كافراً فمخلَّدٌ أبد الآبدين، وإن كان قد تقحَّم هذه الكبائر غير الشرك فهذا يواجه جزاءه إلا أن يتجاوز الله عنه.
أهل الكبائر تحت مشيئة الله، ومنهم أقوام قطعاً يدخلون النار ويعذَّبون ما شاء الله بقدر ذنوبهم، ثم يأذن الله في الشفاعة لهم، لكن الآن من يصبر منكم على حرّ الشمس في يوم شديد الحر، من يتحمله ؟! لو إنسان يضعك في غرفة ضيقة مظلمة في شدّة الحرّ، ليس فيها مكيِّف ولا مروحة ولا فيها شيء، ويقطع عنك الطعام والشراب، يحبسك ثلاثة أيام، هل عندك استعداد لمثل هذا ؟! الذي يمنع الزكاة يُبطَح بقاعٍ قرقر أملس ؛فإن كان له إبل تأتي تطؤه بخفافها وتعضه بأنيابها وتمر عليه في يوم مقداره خمسين ألف سنة(18) - لا حول ولا قوة إلا بالله - هذا الذي يمنع الزكاة، كيف الذي يترك الصلاة ؟!كيف إذا ضمّ إلى ذلك الزنا ؟!
تارك الصلاة يختلف العلماء فيه، وجمهور الصحابة على أنه كافر الكفر الأكبر ويخلَّد في النار، وإذا قلنا بالكفر الأصغر فعذابه أشدّ من عذاب مانع الزكاة ؛يوم يحمى عليهم - إذا كان ذهبا أو فضة - : {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ }( التوبة : 35 ) .
فالمؤمن لا يتعلق بنصوص الوعد كما تفعل المرجئة ؛فيتجرؤون على المعاصي ،ويُجرِّؤون الناس على ذلك ؛يقولون : العمل ليس من الإيمان !
وغلاتهم يقولون : من قال لا إله إلا الله يدخل الجنة ولا يعذَّب ! - قاتلهم الله- أين نضع هذه النصوص؟!
نصوص الوعيد من الكتاب والسنة أين نضعها؟! هذا النص أين نضعه ؟! : {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً }( النساء :93 ) وآكل الربا، آكل مال اليتيم، والذي يقذف المحصنات؛ هذه من الكبائر، أين نضع هذه النصوص ؟!
والخوارج يكفِّرون بالذنوب ويحكمون على العصاة وأهل الكبائر بالخلود في النار إن لم يتوبوا، فإن تابوا فهم يؤمنون بأن الله تبارك وتعالى يقبل توبتهم .
فالله تبارك وتعالى ذكر الوعيد : ( يلق أثاما ) العذاب والنكال الشديد.
وبعضهم يفسر الآثام بوادٍ في جهنم؛ واد خطير في جهنم وهو من النكال الذي يلقاه الكفار ،وقد يلقى هذا النكال المجرمون العتاة -والعياذ بالله-، على تفاوت بين الكفار وبين العصاة، ولكن من يطيق هذا العذاب؛ عذاب جهنم ؟!يعني أخفهم وأيسرهم عذاباً يوضع له نعلان من نار أو شراكان من النار يغلي منهما دماغه، يرى أنه لا أحد أشدَّ عذاباً منه، هذا أخف أهل النار وهو أبو طالب، قال صلى الله عليه وسلم : (أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أبو طَالِبٍ وهو مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ)(19) .
ومن العصاة من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى ساقيه، ومنهم من تأخذه إلى حقويه ،وهل يطيق هذا أحد ؟! هل تتحمل حرّ الشمس والرمضاء ؟! لا تطيق ذلك، إذن ضع نصوص الوعيد أمام عينيك على المعاصي والسيئات التي توعد الله عليها ،فإن وقعت في شيء منها فبادر إلى التوبة النصوح ،وإياك أن تصرّ ولو على صغيرة: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }( آل عمران :135 ).
فالمؤمن الصحيح الصادق لا يصرّ على المعصية والفاحشة ،بل يهرع إلى الله فورا نادماً تائباً توبة نصوحاً ،فمن يقع منا في معصية صغيرة أو كبيرة ،وكلنا خطاءون وخير الخطائين التوابون، والله ندبَنا إلى التوبة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً }( التحريم : 8 ) يخاطب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ،ورسول الله عليه الصلاة والسلام نفسه الذي غفر الله من ذنبه ما تقدم وما تأخر يستغفرُ الله ويتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة(20) وفي رواية مئة مرة(21)، بل في المجلس الواحد يعدٌّ له مئة مرة أستغفر الله وأتوب إليه؛ فعن ابن عمر قال : ( إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة " رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم "(22) وهو رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ تقولها بصدقٍ وإخلاصٍ وجدٍّ تقولها وأنت تعني ما تقول وليس مجرد كلام فقط.
{ إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً } التوبة لها شروط:
- أن تندم على ما فعلت أشدّ الندم ،وتستحي من الله وتخجل منه ،وتجد من وخز الضمير ما لا يتصوره إلا التائب الصادق.
- وأن تقلع عن الذنب، تبادر إلى الإقلاع عن ذلك الذنب.
- وأن تعزم عزما أكيدا ألا تعود إلى هذا الذنب الذي وقعت فيه وزعمت أنك تبت منه.
وفي الآية هذه : { إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } إذا تاب توبة نصوحة وآمن إيماناً صادقاً، وعمل عملاً صالحاً، والعمل الصالح هو الموافق لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من كتاب وسنة، لا يكون فيه بدع، فحذار أشدّ الحذر من البدع فإن الله لا يقبلها.
فعلينا جميعا في كلّ وقت بالتوبة النصوح ولا سيما الذي يقع في واحدة من هذه الكبائر، وعلينا بالعمل الصالح والإيمان الصادق .
{فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}
ما هذا التبديل؟ منهم من يقول : يوفقهم الله تبارك وتعالى للأعمال الصالحة والحسنات فبَدَلَ أن كان يشرك بالله ويقتل النفس ويزني ويسرق وكذا وكذا يوفقه الله للأعمال الصالحة؛ إلى التوحيد، إلى الاستقامة، إلى عمل جميع الخيرات، هذا معنى القول الأول : (يبدل الله سيئاتهم حسنات ) يعني يوفقه الله، فبدل أن يعمل تلك السيئات أصبح بتوفيق الله يعمل الأعمال الصالحة الصحيحة، ويجتنب تلك المساوئ التي كان يمارسها .
ومنهم من يقول : بل نفس السيّئات هذه التي مارسها يجعلها الله في الآخرة حسنات، ولذلك وردت في ذلك آثار وأحاديث؛ يعني لهذا القول شواهد من السنة ومن آثار السلف ومن تفسيرهم لهذه الآية، ومنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا منها رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يوم الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ اعْرِضُوا عليه صِغَارَ ذُنُوبِهِ وَارْفَعُوا عنه كِبَارَهَا فَتُعْرَضُ عليه صِغَارُ ذُنُوبِهِ فَيُقَالُ عَمِلْتَ يوم كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا وَعَمِلْتَ يوم كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا فيقول نعم لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ وهو مُشْفِقٌ من كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عليه فَيُقَالُ له فإن لك مَكَانَ كل سَيِّئَةٍ حَسَنَةً فيقول رَبِّ قد عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لَا أَرَاهَا هَا هُنَا فَلَقَدْ رأيت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حتى بَدَتْ نواجذه ) ( 23)
يعني أنه يؤتى برجل فيقول الله تبارك وتعالى له فعلت كذا، فعلت كذا، فيعترف؛ يبدي له الصغائر ويخفي عنه الكبائر فيعترف، فيقول له: إنا قد أبدلناها لك حسنات فيطمع فيقول: يا رب إن لي أعمالا ما رأيتها، فضحك رسول الله وكان خائفاً يرتجف من الكبائر هذه وأخفوها عنه، فلما بُدِّلت سيئاته إلى حسنات طمع، فقال: يا رب إن لي أعمالا أخرى لم أرها، فيغفرها الله له ويتجاوز عنه .
الشاهد : أنه بدلت سيئاته حسنات والحديث صحّحه ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية ورواه أحمد .
المهم أنّك تتوب؛ إذا تبت توبة نصوحا وعملت العمل الصالح المرتكزين على الإيمان الصادق فأبشر برحمة الله وفضله سبحانه وتعالى وكرمه وجوده، فإنه يكرمك إكراماً عظيماً لأجل هذه التوبة .
وكثير من الكفار يكفرون بالله ويشركون به ويرتكبون الجرائم، فإذا تابوا إلى الله تبارك وتعالى، صاروا من أفضل الناس وفي أعلى الدرجات عند الله بسبب هذه التوبة النصوحة : {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ. أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ. أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } ( الزمر : 53- 58 )
ففي هذه الآيات من سورة الزمر دعا الله تبارك وتعالى عباده إلى التوبة، ووعدهم بالمغفرة ثم أعقبها بوجوب الإنابة إلى الله تبارك وتعالى .
أمرٌ حاسم بالإنابة إلى الله تبارك وتعالى والمبادرة بالطاعات قبل أن يأتي وقت الندم الذي لا ينفع فيه الندم، وتأتي الحسرات التي تقطِّع القلوب، ولكنها لا تغني شيئاً:{ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }(النور :31 ) فبادروا إلى التوبة والفلاح .
{ فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }؛ هكذا يعني سنة الله في كتابه أنه يختم الآيات بصفاته الكريمة المناسبة لسياق هذه الآيات، فهنا ذكر التوبة وهي مغفرة الذنوب وتبديل السيئات إلى حسنات، فأثنى الله على نفسه وقال : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }؛كثير المغفرة، رحيم وسعت رحمته كل شيء، سبحانه وتعالى، فلا تيأس من مغفرة الله ولا من رحمته مهما وقعت في الذنوب، شريطة أن تتوب إلى الله وتعمل صالحاً، وتؤمن بالله الإيمان الصادق، فهذه في التائبين، وبهذه التوبة يدخلون في عباد الرحمن الممدوحين عند الله تبارك وتعالى؛ ينخرطون في صفوف هؤلاء العباد الذين وصفهم الله تبارك وتعالى في الآيات التي سلفت:{ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} إلى هذا المقام، وليس ذلك بصعب على الله – تعالى الله عن ذلك- بل قد يتحول هذا التائب إلى أفضل من العابدين من أول حياتهم؛ لأن الإنسان إذا وقع في الذنوب وتاب توبة نصوحا، ويلازمه الندم على ما فعل، فلا يسرح ولا يمرح بل يلاحقه الحياء والخجل من الله من تلك المعصية ولو تاب وآمن وعمل صالحاً.
وانظروا إلى الأنبياء ومنهم أولو العزم؛ كيف لا ينسون هذه الأخطاء التي وقعوا فيها- عليهم الصلاة والسلام- فلما تشتد الأهوال يوم القيامة على البشر في ذلك اليوم الرهيب الشديد الذي تدنو فيه الشمس حتى ما يكون بينها وبين رؤوسهم إلا مقدار ميل، قال الراوي : لا يدري أهو ميل المساحة أو ميل المكحلة ؟ كما في حديث الشفاعة : ( أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون مم ذلك ؟ يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس :ألا ترون ما قد بلغكم ؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم ؟ فيقول بعض الناس لبعض : عليكم بآدم فيأتون آدم عليه السلام فيقولون له : أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه ألا ترى إلى ما قد بلغنا ؟ فيقول آدم : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته نفسي، نفسي، نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح ) فيذكر خطيئته ويقول : ( نفسي، نفسي ) تاب من هذه الخطيئة، أكل من الشجرة؛ يعني الشيطان حلف له وأقسم له بالله أنه لمن الناصحين، فاغترّ بهذا الحلف وهذه اليمين المؤكدة فأكل هو وزوجه من الجنة فعاقبه الله تبارك وتعالى بأن أخرجه من الجنة، تاب؛ تاب توبة نصوحا: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (الأعراف :23 ) فتاب الله عليه، واختاره نبيا، واجتباه سبحانه وتعالى، واصطفاه ونبّأه تعاليم من الله تبارك وتعالى يتعبد الله بها ويبلغها لذريته عليه الصلاة والسلام.
خطيئة واحده؛ أكل أكلة واحدة ما نسيها في حياته وإلى يوم القيامة، هذا هو الإيمان الصادق والحياء، الإنسان إذا انعدم الحياء منه هلك وأهلك والعياذ بالله .
ثم يأتون نوحا عليه الصلاة والسلام؛ أبو البشر الثاني والذي لبث ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعو إلى الله تبارك وتعالى، ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً - عليه الصلاة والسلام - يطلبون منه الشفاعة : (فيقولون يا نوح إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وقد سماك الله عبدا شكورا اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ فيقول: إن ربي عز وجل قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي نفسي، نفسي، نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم) ليس يعني انتقاما منهم أو لشهوة في نفسه، بل الله أشعره بأنهم لا يتوبون إلى الله ولا أمل في توبتهم فاستحقوا من الله الهلاك فأغرقهم الله تبارك وتعالى، يَعُدُّ هذا ذنباً - الله أكبر- وهو في الحقيقة ليس بذنب، لكن مشاعر عظيمة وحياء عظيم ما نسي هذا إلى يوم القيامة.
إبراهيم عليه الصلاة والسلام أفضل الأنبياء بعد محمد عليه الصلاة والسلام؛ خليل الله، يطلبون منه الشفاع